أبو طالب :
لمّا بعث النبي محمّد(صلى الله عليه وآله) إلى البشرية مبشّراً ومنذراً، صدّقه أبو طالب وآمن بما جاء به من عند الله، ولكنّه لم يظهر إيمانه تمام الإظهار، بل كتمه ليتمكّن من القيام بنصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومَن أسلم معه.
قال الشيخ المفيد(قدس سره): «اتّفقت الإمامية على أن آباء رسول الله(صلى الله عليه وآله) من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطّلب مؤمنون بالله عزّ وجل موحّدون له… . وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب رحمه الله مات مؤمناً، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنّها تُحشر في جملة المؤمنين»(۱).
وقال الشيخ الصدوق(قدس سره): «اعتقادنا في آباء النبي أنّهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله، وأنّ أبا طالب كان مسلماً، وأُمّه آمنة بنت وهب كانت مسلمة»(۲).
ومن الأدلّة على إيمانه أ ـ روايات أهل البيت(عليهم السلام)، نذكر منها:
۱ـ قال العباس بن عبد المطّلب: «قلت لرسول الله(صلى الله عليه وآله): يا بن أخي، ما ترجو لأبي طالب عمّك؟ قال: أرجو له رحمة من ربّي وكلّ خير»(۳).
۲ـ قال الإمام علي(عليه السلام): «ما مات أبو طالب حتّى أعطى رسول الله(صلى الله عليه وآله) من نفسه الرضا»(۴). وواضح أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يرضى إلّا عن المؤمنين.
۳ـ قال الإمام علي(عليه السلام): «والله ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قطّ»، قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: «كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسّكين به»(۵).
۴ـ قال الإمام علي(عليه السلام): «كان والله أبو طالب عبد مناف بن عبد المطّلب مؤمناً مسلماً، يكتم إيمانه مخافةً على بني هاشم أن تنابذها قريش»(۶).
۵ـ قال أبو بصير ليث المرادي: «قلت لأبي جعفر(عليه السلام): سيّدي، إنّ الناس يقولون: إنّ أبا طالب في ضحضاحٍ من نار يغلي منه دماغه! فقال(عليه السلام): كذبوا والله، إنّ إيمان أبي طالب لو وضع في كفّة ميزان وإيمان هذا الخلق في كفّة لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم. ثمّ قال: كان والله أمير المؤمنين يأمر أن يحجّ عن أب النبي وأُمّه(صلى الله عليه وآله) وعن أبي طالب في حياته، ولقد أوصى في وصيّته بالحجّ عنهم بعد مماته»(۷).
۶ـ عن محمّد بن يونس، عن أبيه، عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنّه قال: «يا يونس، ما تقول الناس في أبي طالب؟ قلت: جُعلت فداك يقولون: هو في ضحضاحٍ من نار، وفي رجليه نعلان من نار تغلي منهما أُمّ رأسه! فقال: كذب أعداء الله! إنّ أبا طالب من رفقاء النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أُولئك رفيقا»(۸).
۷ـ قال الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرّتين»(۹). ب ـ إجماع علماء مذهب الشيعة على إسلامه بل إيمانه، وإجماعهم هذا حجّة، وقد وافقهم على إسلامه(رضي الله عنه) من علماء السنّة جماعة ، لكن عاقّهم على خلاف ذلك. وقد وافق أكثر الزيدية الشيعة على إسلامه(رضي الله عنه)، وبعض من شيوخ المعتزلة، وجماعة من الصوفية، وغيرهم. ج ـ أشعاره(رضي الله عنه) التي تنبئ عن إسلامه، ونذكر هنا أحد عشر شاهداً من شعره، وهي:
۱ـ ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً *** نبيّاً كموسى خطّ في أوّل الكتبِ ۲ـ نبيّ أتاه الوحي من عند ربّه *** ومن قال لا يقرع بها سنّ نادمِ
۳ـ يا شاهد الله عليّ فاشهدِ *** إنّي على دين النبيّ أحمدِ
۴ـ يا شاهد الوحي من عند ربّه *** إنّي على دين النبيّ أحمد
۵ـ أنت الرسول رسول الله نعلمه *** عليك نزل من ذي العزّة الكتب
۶ـ بظلم نبيّ جاء يدعو إلى الهدى *** وأمر أتى من عند ذي العرش قيم
۷ـ لقد أكرم الله النبيّ محمّداً *** فأكرم خلق الله في الناس أحمد
۸ـ وخير بني هاشم أحمد *** رسول الإله على فترة
۹ـ والله لا أخذل النبيّ ولا *** يخذله من بني ذو حسب
۱۰ـ قال مخاطباً ملك الحبشة ويدعوه إلى الإسلام: «ليعلم خير الناس أنّ محمّداً *** رسول كموسى والمسيح بن مريم أتى بالهدى مثل الذي أتيا به *** فكلّ بحمد الله يهدى ويعصم وإنّكم تتلونه في كتابكم *** بصدق حديث لا حديث المجمجم فلا تجعلوا لله ندّاً وأسلموا *** فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم»(۱۰). ۱۱ـ قال مخاطباً أخاه حمزة(رضي الله عنهما): «فَصَبراً أبَا يَعلَى عَلَى دِينِ أَحْمَدٍَ ** وكُنْ مُظْهِراً لِلدِّينِ وُفِّقْتَ صَابرا نَبيٌّ أتى بِالحَقِّ مِنْ عِندِ رَبِّهِ ** بِصِدقٍ وَعَزمٍ لا تَكُنْ حَمْزَ كافرا فَقَدْ سَرَّنِي إذْ قُلْتَ لَبَّيكَ مُؤمِناً ** فَكُنْ لِرسولِ اللهِ في اللهِ نَاصِرا ونَادِ قُريشاً بالَّذِي قَدْ أتيتَهُ ** جِهاراً وَقُلْ مَا كَانَ أَحمدُ سَاحرا»(۱۱).
كفالته للنبي(صلى الله عليه وآله) تُوفّي أخوه عبد الله ـ والد النبي(صلى الله عليه وآله) ـ والنبي حمل في بطن أُمّه، وحينما ولد(صلى الله عليه وآله) تكفّله جدّه عبد المطّلب، ولمّا حضرت الوفاة لعبد المطّلب أوصى ولده أبا طالب بحفظ رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحياطته وكفالته، وكان عمره(صلى الله عليه وآله) ثمانية سنين، فكفله أبو طالب وقام برعايته أحسن قيام.
حبّه للنبي(صلى الله عليه وآله) كان(رضي الله عنه) يحبّ النبي(صلى الله عليه وآله) حبّاً شديداً، وفي بعض الأحيان إذا رآه كان يبكي ويقول: «إذا رأيته ذكرت أخي»(۱۲)، وكان عبد الله أخاه لأبويه. حنوّه على النبي(صلى الله عليه وآله) لمّا أدخلت قريش بني هاشم الشعب إلّا أبا لهب وأبا سفيان بن الحرث، فبقي القوم بالشعب ثلاثة سنين، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا أخذ مضجعه وعرف مكانه، جاءه أبو طالب فأنهضه عن فراشه وأضجع ابنه أمير المؤمنين(عليه السلام) مكانه. فقال له أمير المؤمنين(عليه السلام) ذات ليلة: «يا أبتاه إنّي مقتول»، فقال: «إصبرن يا بني فالصبر أحجى *** كلّ حيّ مصيره لشعوب قد بذلناك والبلاء شديد *** لفداء الحبيب وابن الحبيب لفداء الأغرّ ذي الحسب الثاقب *** والباع والكريم النجيب إن تصبك المنون فالنبل يُرمى *** فمصيب منها وغير مصيب كلّ حيّ وإن تملي بعيش *** آخذ من خصالها بنصيب فأجابه أمير المؤمنين(عليه السلام): أتأمرني بالصبر في نصر أحمد *** ووالله ما قلت الذي قلت جازعا ولكنّني أحببت أن ترى نصرتي *** وتعلم إنّي لم أزل لك طائعا وسعيي لوجه الله في نصر أحمد *** نبيّ الهدى المحمود طفلاً ويافعا»(۱۳). تناله شفاعة النبي(صلى الله عليه وآله) قال الإمام الصادق(عليه السلام): «هبط جبرئيل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمّد، إنّ الله عزّ وجل قد شفّعك في خمسة: في بطن حملك وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وفي صلب أنزلك وهو عبد الله بن عبد المطّلب، وفي حجر كفلك، وهو عبد المطّلب بن هاشم، وفي بيت آواك وهو عبد مناف بن عبد المطّلب أبو طالب، وفي أخ كان لك في الجاهلية»(۱۴).
حرّم على النار قال الإمام الصادق(عليه السلام): «نزل جبرئيل(عليه السلام) على النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول: إنّي قد حرّمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطّلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأمّا حجر كفلك فحجر أبي طالب»(۱۵).
وفاته تُوفّي(رضي الله عنه) في ۷ شهر رمضان ۱۰ للبعثة النبوية الشريفة في شعب أبي طالب بمكّة المكرّمة، وقيل: تُوفّي في ۲۶ رجب ۱۰ للبعثة النبوية الشريفة، ودُفن فيها. تجهيزه «لمّا قبض(رحمه الله)، آتى أمير المؤمنين(عليه السلام) رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فآذنه بموته، فتوجّع لذلك النبي(صلى الله عليه وآله) وقال: امضِ يا علي، فتولّ غسله وتكفينه وتحنيطه، فإذا رفعته على سريره فأعلمني. ففعل ذلك أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلمّا رفعه على السرير اعترضه النبي(صلى الله عليه وآله) فرق له وقال: وصلتك رحم، وجزيت خيراً، فلقد ربّيتَ وكفلتَ صغيراً، وآزرتَ ونصرتَ كبيراً. ثمّ أقبل على الناس فقال: أما والله، لأشفعنّ لعمّي شفاعة يعجب منها أهل الثقلين»(۱۶). ———————————
۱- أوائل المقالات: ۴۵. ۲- الاعتقادات: ۱۱۰. باب۴۰. ۳- الدرجات الرفيعة: ۴۹. ۴- شرح نهج البلاغة ۱۴ /۷۱. ۵- كمال الدين وتمام النعمة: ۱۷۴ ح۳۲. ۶- الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب: ۱۲۲. ۷- المصدر السابق: ۸۵. ۸- المصدر السابق: ۸۲. ۹- الكافي ۱ /۴۴۸ ح۲۸. ۱۰- روضة الواعظين: ۱۴۱. ۱۱- إيمان أبي طالب للمفيد: ۳۴. ۱۲- شرح نهج البلاغة ۱۴ /۶۴. ۱۳- الفصول المختارة: ۵۹. ۱۴- الخصال: ۲۹۳ ح۵۹. ۱۵- الكافي ۱ /۴۴۶ ح۲۱. ۱۶- إيمان أبي طالب للمفيد: ۲۵. بقلم: محمد أمين نجفه وحده.